Archive for the ‘قصص قصيرة’ Category

رقصة اليمامة

Posted: 4 جوان,2016 in قصص قصيرة
الوسوم:,

رقصة اليمـامة

نصر عبد الرحمن

نُشرت بمجلة إبداع (المزيد…)

راية خضراء

Posted: 4 مارس,2014 in راية خضراء
الوسوم:

راية خضراء على قبر جدي

اختناق كساعة رملية.
هواء ما بعد الاختناق يأتي فأفتح صدري له.
هواء ما بعد الاختناق يأتي فيحرك نقطة سوداء في ظلام أبدي متراكب منذ كان النور كياناً واحداً. نقطة تهتز اهتزازات متوترة متواترة، وتندفع في كل الاتجاهات ، وهي تقضم – بصوت مسموع – بهجتي باقتناص شيء نادر وعزيز، أرهقني البحث عنه، لكنه ضاع حتى قبل أن أصل إلى نهاية الشارع الذي فيه أمشي. تمنيت أن ينتهي الشارع أو يتحول إلى غابة أو حقل، وأرى جدي يقف بداخل شوال كبير، يكبس فيه القطن بقدميه. حركته التي تشبه الرقص تجعلني أندهش وأبتسم ، ثم أبكي وأدبدب بقدمي حتى يحملني على كتفه.

(المزيد…)

أطراف مبتورة

Posted: 4 مارس,2014 in أطراف مبتورة
الوسوم:

شلبي

أراه كل صباح يجلس على عتبة داره، يحاول تثبيت الساق المعدنية، ثم يحكم ربط الحزام الجلدي حول فخذه، ثم يجرب قدرته على تحريكها ويتأكد أن وضعها صحيح. بعد ذلك يتكأ على الباب لينهض . يتحرك خطوة واحدة ثم يقف مستندا بكفه على الحائط. يتابع زوجة ابنه وهي تشد الحمار إلى العربة، وحين تنتهي يمشى خطوتين قبل أن يقبض بكفيه على حرف العربة، ثم يقفز بخفة – أظنها –  تعجبه ليجلس عليها. ترفع زوجة ابنه شوال العلف من أمام الحمار وتضعه إلى جواره ثم تناوله الكرباج. يحركه في الهواء كأنه يجربه ثم يلسع الحمار يحثه على التحرك. تهتز العربة مع مطبات الشارع، فتهتز الشخاليل حول رقبة الحمار، فيهز ساقه.
لم أسأله يوما أيفعل هذا من النشوة، أم يجرب احتمال سقوطها؟!

محمد
أراهما كل صباح عدا الأحد والخميس على رصيف محطة القطار، أو في الطريق إليها. هو طويل، بدين، ممتلئ الوجه، خشن الشعر.عينه اليمنى مغلقة تماماً واليسرى نصف مفتوحة. كل قمصانه واسعة، وبناطيله ضيقة. كرشه الكبير يثنى كمر البنطلون إلى الخارج. يمشى دائماً بخطوات ضيقة، دون أن يحرك ذراعيه، ويحمل دائما كيس أبيض به كاسيت صغير وبعض الشرائط والكتب.
هي فتاة نحيلة، سمراء، ملامحها دقيقة وحزينة. كأنه يضبط خطواته على خطواتها، أو يشعر بجسدها الأثيري. حين تدور يدور، وحين تصعد سلم المحطة يصعد ، وحين تقف يقف. في الزحام فقط ، حين يعلو الضجيج، تنادى عليه بصوت حازم: محمد . كلمة واحدة فقط تكفيه كي يحدد مكانها فيتحرك نحوها أو يتبعها. تشق طريقها في زحام العربة حتى تجد مكاناً تقف فيه بين كرسيين ثم تقول: محمد. يقف مكانه ويحرك يده في الهواء حتى ينتبه أحد الواقفين حوله فيمسك كفه ويضعه على حرف كرسي يستند إليه ويحتمي به من هزات القطار العنيفة.
في محطة المنصورة يتبعها رغم الزحام الشديد والتدافع، وأحياناً يمشى بسرعة، ويدفع الناس حتى لا يفقد أثر جسدها.
قرب نهاية العام، رأيته يقف وحيداً في المحطة، رأسه تميل ناحية كتفه الأيمن، وذراعه الأيمن على بطنه، بينما ذراعه الأيسر يتصلب إلى جواره يتدلى منه الكيس الأبيض. الناس من حوله يتحركون وهو جامد مكانه. بحثت عن الفتاة السمراء فلم أجدها. انتظرت دقائق فلم تظهر، والقطار يوشك على التحرك. ناديته بصوت عال : محمد.. فانتفض جسده، ورفع رأسه ثم اتجه نحوى مسرعاً ووقف أمامي بالضبط. تأملت وجهه لحظات ثم تحركت ناحية القطار فتبعني صامتاً.

أبو الفتوح
فى طفولتي الأولى كنت أسابق العيال في حل سلك المكبس. نجلس على مسافات متباعدة، كل واحد منا في يده ضفيرة، يفرد أطرافها بين أصابع يده اليسرى، ويدفعها بقوة ويلفها في نفس الوقت بيده اليمنى، فتتحرر الأسلاك. ومن ينجز عمله أولاً يصرخ: يا سلام.. أسرع من أبو الفتوح والله..
أبو الفتوح أسرع واحد في العزبة يحل سلك. بعد أن أكل المكبس يده اليمنى، صار يجلس أمام داره على شلتة من القش. يضع الضفيرة بين أصابع قدميه ويدفعها بسرعة، فتتقافز الأسلاك أمامه وتزحف كأنها ثعابين تهرب.
قلت له ذات صباح: والنبي يا أبو عزة وريني بتلف السلك برجلك إزاى؟! فقال بصوت غاضب: ابعد عنى الوقت يا ابن سمير.. مش فايق لك. قلت: والنبي يا أبو عزه.. والنبي.
شتمني ونهض مُنفعلاً يبحث عن طوبة يضربني بها، وهو يزعق: والله يا ابن الكلب لأقول لأبوك لما يرجع. أخرجت لساني له عدة مرات، ثم قلت: المكبس بعيد .. وأبويا مش راجع غير بعد شهر.
سألت عمي في المساء: ليه الناس بتشتغل في المكبس.. وهو بياخدهم بعيد ويقطع إيديهم؟
فقال: والناس هتشتغل في إيه تاني؟ ثم أخرج علبة السجاير بيده اليسرى .. هزها قليلا فبرزت فلة سيجارة .. التقطها بشفتيه. أعاد العلبة إلى جيبه وأخرج الكبريت. دفع درجه بإصبعه الوسطى، ثم التقط عوداً بسبابته وإبهامه. أحكم القبض على العلبة ببطن كفه، وثبت العود على الحكاكة، ثم دفعه بالسبابة بسرعة، فاستدار العود مشتعلا، رأسه إلى أعلى. أشعل به السيجارة ثم أطفأه بالدخان المندفع من جانب فمه.
أكمل: حاجه من اتنين.. يا الشغل في المكبس.. يا الرمية في الشارع زى النسوان.. تحل سلك. اخذ نفساً جديداً، ورفع يده اليمنى الملفوفة بالشاش أمام شفتيه المضمومتين، فتراقص حولها الدخان.
مفتاح الجنة
بعد الاطلاع على محضر الشرطة رقم 172 بخصوص حادث القطار رقم 96 قررنا نحن علاء محمود فؤاد وكيل نيابة دكرنس دفن ساق الطالب محمد إبراهيم بيومي بمقابر دكرنس وعلى والده اتخاذ الإجراءات اللازمة بهذا الخصوص.

فتح الولد عينيه على عالم غريب، أغرب حتى من أحلامه الطويلة المتتابعة. تأمل وجه أبيه النائم إلى جواره مستنداً برأسه إلى شباك السرير. رأى في الناحية الأخرى زجاجة محلول معلقة على قائم معدني، وخلفها ستارة بيضاء تحجب عنه السرير المجاور. على شباك السرير ناحية قدميه تتدلى حقيبة سفر صغيرة حاول أن يتذكر أين رآها من قبل. مد يده ليهرش فخذه، فأحس ارتفاعا قطنيا تحت كفه، كأنها وسادة صغيرة وضعت مكان فخذه، ثم رأى وجه أمه يزحف على السقف المرتفع شديد البياض، قبل أن يعود إلى أحراش أحلامه.
كان يحلم أنه في محطة القطار، يطارد سحلية ليشق بطنها بحثا عن مفتاح الجنة، لكنها هربت منه، وانزلقت تحت سور خشبي. سور حديقة تشبه غابة معزولة. فكر أن يتبعها لكنه خاف واستدار ليجد نفسه في قلب غابة كثيفة الأشجار. تلفت بحثا عن مخرج ، فوجد جحراً كبيراً، أسفل شجرة جميز ضخمة، يتجمع حول مدخله عشرات السحالي. كنز من السحالي الصغيرة الملونة. اقترب منها فلم تهرب، بل فتحت أفواهها كأنها جائعة. أمسك واحدة بيضاء كاللبن الحليب، كالشاش ، كالقطن الطبي. وضعها على كفه، فهزت ذيلها ورفعت رأسها نحوه . حاول أن يلمسها بإصبعه فصرخت وانفجر الدم من كل جسدها وسال على كفه. اندفعت السحالي الصغيرة وهاجمته. آلاف الأنياب اخترقت جلد ساقه. حاول أن يهرب، لكنه سمع صرخة قوية، ورأى الجميزة الضخمة تتحول إلى سحلية، تطارده بين الأشجار. نظر إلى الخلف ، فرأى أنها مازالت تطارده، وتطلق من فمها ناراً ترفع حرارته. وتجعل العرق الساخن ينزلق على كل جسده.
فجأة.. أحس ضجيج شارع مزدحم ، ثم رأى أمه تبكى وتلطم وهي تتشبث بقضبان بوابة المستشفى . محمود أخوه الكبير يتشاجر مع رجلين، وأبوه يجلس به على الأرض ، والممرضات تنخسنه بأسياخ محمية في ساقيه. أحس بألم لا يطاق ساقه اليمنى. لكنه اندهش وهو يرى قرص الشمس يتسع والضجيج يتلاشى . لم يعد يسمع سوى جملة واحدة ، أخذها معه إلى حلمه الآخر. جملة يكررها أبوه وهو يصرخ: أروح بيه فين يا كفره يا ولاد الكلب..
استيقظ ليجد السحلية المتوحشة، التي كانت في الأصل شجرة جميز، تلعق الدم النازف من ساقيه بلسانها الرطب الخشن فتوقف الألم. أحس أنها تبتسم له. رفع كفه في الهواء نحو فمها. لعقت أصابعه فضحك. تحولت ابتسامة السحلية إلى ضحكة كبيرة، دفعت الهواء البارد إلى جسده فانتشى. قالت له: بص.. ده مفتاح الجنة.. شايف جميل إزاى.. إوعى يضيع منك.
نصر عبد الرحمن

انزلاق

Posted: 25 فيفري,2014 in قصص قصيرة, انزلاق

– يا واد .. أحمد ابن سنية بيشتغل في ورشة الدماصى بعشرين جنيه فى الأسبوع ، والواد فتحى ابن ميازة أم إبراهيم أبو عوض بيشتغل عند الإمبابى بخمسة وعشرين جنيه .. وانت قاعد زى البت اللى بختها مال .

-يعنى أعمل إيه يا أمه .

كان الولد يتحدث بهدوء جم ، أثار أمه ، فقفزت من فوق الكنبة ، وخلعت الإيشارب ، وألقته على الكنبة المقابلة ثم نكشت شعرها وخرجت إلى البلكونة فى غبشة الغروب . أطلقت صرخة عالية رفت فى فضاء الشارع الساكن وبدأت تلطم على خديها وصدرها وتقول : تعالوا يا ناس .. تعالوا اتفرجوا على خيبتى … والولد يحاول أن يمسك بذراعها ويعود  بها إلى الداخل .

أطل سكان العمارة من الشبابيك ، أو خرجوا إلى البلكونات ، وحين عرفوا أنه الدور الخامس انسحبوا إلى داخل شققهم فى هدوء . قلة من الغرباء وقفوا ـ من باب الفضول ـ ورفعوا رؤوسهم إلى أعلى، ثم اشتبكوا فى حوارات قصيرة مع البقال والمكوجى وصاحب المكتبة الذين وقفوا أمام محالهم . ربنا يلطف بعبيده .. أصلها حاجة تجنن .. واد صايع .. شكله بيشرب بانجو  شوف بيشدها إزاى  لا حول ولا قوة إلا بالله .

يعلو صراخها من جديد ، والواقفون على الرصيف لا يفهمون كلماتها الحادة اللاسعة ، أنا نفسى
لا أستطيع  تفسير تلك الكلمات مضغومة الحروف ، وإن كنت أعرف أنها بنت كلب كاذبة فى حزنها وانفعالها . تحاول أن تدغدغ قلوب جيرانها ، وتضغط على ابنها المسكين وتفضحه فضيحة السمك فى طاسة القلية ، كما حدثت نفسها قبل لحظات من انفجارها هذه المرة . دخلت إلى الصالة ، وعادت إلى وضعها السابق على الكنبة ، وأسندت ظهرها إلى زاوية بين الحائط ، وبين القائم الخشبى بنى اللون ، الذى اقامته العام الماضى ، لتحجب باب الحمام وباب حجرة النوم عن نظر الضيوف الجالسين فى الصالة . كانت تبكى بكاء مرا وحقيقيا . يبدو أن اللعبة قلبت جد .

جلس الولد إلى جوارها، يربت على كتفها المترهل ، ويواسيها بصوته الرقيق .. الـ .. الأنثوى . أعرف أنه ما زال مراهقا ، وأن صوته سوف يستقيم ويخشوشن ، لكن تلك الرقة تغيظينى ، فى الواقع تدمى قلبى … فى الحقيقية ما أغضبنى ليس صوته ، بل ما كان يتمتم به من كلمات : ليه بس كل ده يحصلى .. اشمعنا أنا يعنى . صحيح أنه كان يوجه كلامه إلى أمه ، وهو ينظر إلى الشعيرات البيضاء التى انتشرت فى شعرها المنكوش قبل أن ينزلق بصره على خدها الأحمر ، ويستمع ـ بشبق يداريه عن نفسه ـ إلى آهاتها المجروحة التى تنهى بها موجة البكاء الحارة إلا أن فى عبارة ( اشمعنا أنا ) وفى الطريقة التى نطقها بها رائحة ما،  كما لو أنه يتجرأ على ويتهمنى بالضلوع فى ما يحدث له ، وفى داخل هذا الاتهام تحد . تحد وقح . وقح لأنه فى غير مكانه . وقح لأنه ضدى . وقح لأنه جرح ما لا تلتئم في نفسه، وفى علاقته بى .

– يا واد افهمنى .. يا ابن الكلب افهم.. إن عشت لك النهاردة مش هاعيش بكرة .. عاوز تخيب خيبة أبوك .

– يعنى أعمل إيه يا امه

– يا واد العيال اللى لسه بيشخوا على نفسهم بقوا صنيعية … يا واد الحكومة جت امبارح علشان الإيجار … هيطردونا من الشقة اللى لمانا .

حركت ذراعيها فى الهواء ، ثم هوت بهما على حجرها ، وأخذت نفسا عميقا ، وهى تنظر إلى السقف، وتحرك رأسها يمينا ويسارا ، ثم رفعت يديها إلى أعلى وحركتها كبندولين مقلوبين ، قبل أن تحط بكفيها على شعرها المنكوش لامع السواد ، رغم انتشار الشيب فيه ،  ثم التفتت إليه وضمت أصابع كفها الأيمن معا أمام ناظريه لتستجمع صبرها المشتت وتستدعى فهمه . وقالت بنبرة هادئة كأنما تهدهده فى مهد : يا أحمد … يا أحمد يا ابن بطنى بتهرب من الورشة ليه ؟ !

كانت تنظر إليه بعينين حادتى الذكاء لامعتين بسبب الدمع الذى لم يجف بعد . فهرب بنظره إلى الزهور الصفراء على الكرانيش المتماوجة التى تتدلى لتغطى الكنبة المقابلة . توقف عند زهرة مشقوقة من المنتصف تقريبا بسبب فتق رتق بغرز كبيرة فجة .

كان يبحث عن كلمات لا تفجر غضب أمه من جديد ، وفى نفس الوقت يشرح لها ـ هي التي تجلس ساعتين فى السوق لتبيع ربطتى جرير ـ كيف يكون العمل فى ورشة نجارة من طلعة الشمس حتى العاشرة مساء . مجاهدته مع الباب الصاج ، كنس الشارع ورش الماء ، إخراج البنك والفوارغ ، ورصها فى الشارع . الوقوف زنهار أمام الأسطى محمود.. انتشار الألم فى الساقين، سحق الخشب واندفاع الجسد خلف الفارة ، وانزلاقها المتكرر ، والصفعات التى تكهرب جسده، ورزالة الصبيان ولاد الـ.. ، واتهامه المتكرر بالسرقة فور ضياع أو اختفاء أى شيء يتهمونه لأنه ابن حمدينو الحرامى . فيلتئم حدا الكماشة على صرصور ودنه ، رغم حلفانه بالله والرسول والدين والختمة ، ورغم براءاته الكثيرة حين يظهر السُمْبك فى النشارة الملتوية على نفسها ، أو يجدون الشاكوش خلف لوح أبلاكاش . هل ستفهم لو حكى لها معنى أيام شق الخشب . انفراط اللوح الواحد إلى سقاسات كثيرة ، رفيعة ، مراوغة . الرزاز المتطاير لمسحوق الخشب، الصرير المعدنى الحاد، غضب المنشار الكهربى، الزحام الشديد، انفراط الخشب، غضب الأسطى . الألم والرجفة من توقع الصفعة، الوخز الحاد فى القلب حين النظر إلى بقايا الأصابع بتجعيداتها اللحمية الصلبة وهى تضغط على الخشب وتدفعه للتمزق ، وتندفع خلفه . الجراح الطازجة والدم الباهت ، والهلال الأحمر المدهون على زجاج شفاف خلفه القطن والشاش وصبغة اليود والإرهاق وزوغان الروح .

– يعنى أعمل إيه يا أمه

الحمد لله أنه لم يفه بغيرها . توقعت أن يتمادى فى وقاحته ، تحت ضغط استدعاء الألم المتواتر . لكن يبدو أن اللحظات القليلات من الشرود وبعض الأحلام، والجلوس أمام الفيديو فى قهوة زكى 
أو على البحر بردت روحه ، وخفقت من هياجها .. باختصار نظمت الفوضى داخله .

– طب والصنايع اللى عاوز تدخلها دى مش عاوزه مصاريف ؟!

– ما أنا طول عمرى باشتغل فى الأجازة ، وفى المدرسة … وانتى بتاخدى فلوس الش..

– شغل إيه يا أبو شغل … حوش يا واد الفلوس اللى بترميها فى حجرى كل خميس ..

كان صوتها عاليا ، حاد النبرات ، وهى تزيح بكفيها معا نقودا وهمية منثورة فى حجرها ، تنهدت ونظرت إليه نظرة ساخرة .. تعمدت أن تكون ساخرة . ثم تنهدت مرة أخرى ومصمصت شفتيها وهى تنظر إلى كفيها متشابكى الأصابع .

أعجبتنى طريقتها . إنها تدعى قلة الحيلة أمام عناده ، لتضغط عليه من الداخل ، وتمنى نفسها أنه سيلين ويخضع بعد أن يتقاطر الدمع من عينيه ، ويرتمى على حجرها ، وينهنه فتهدهده وتربت على ظهره ثم تقبل شعره بشفتيها . أشم رائحة شبق، لكن إعجابى بخطتها جعلنى أتركها وأركز عليه . أنتظر كلمة “حاضر ” منه . يا سلام .. حاضر دى كلمة جميلة خالص . الحفيف الخفيف لحرف الحاء المتواتر قبل ألف المد رائع. تتبتل وأنت تنطقها حرفا تلو حرف كأنك .. كأنك .. آه .. كأنك خاضع.

تكونت العبارة برأسه ( حاضر يا أمه ) وانزلقت على لسانه . فتح شفتيه على اتساعهما لينطق الحاء والألف وقال حا حاشتغل بعد المدرسة يا امه .. والصنايع فيها قسم حاضر .. قسم نجارة وبعدين ..

نظرت إليه نظرة جافة فأسكتته ، ولم تتكلم . أى كلام يفيد مع ابن كلب جاحد . ضيعت شبابها عليه وهو لا يعترف بالجميل .. ولا يريد لأمه الراحة . أخطأت حين تعاطفت معه فى البداية . الدموع تسيل من عينى وأنا أسمعها تحدث نفسها: يا اعتماد يا بنت زينب .. ابنك عويل زى أبوه .. بختك كده .. أعمل إيه .. أبيع فردة الحلق وأسد إيجار الشقة قبل الحكومة ما تخدها.

اختلست النظر إليه، كان شاردا، ينظر إلى الزهرة المشطورة، عامل فيها رومانسي ابن الكلب. فى وجهه براءة جرحت قلبها حتى كادت تستسلم وعادت تحدث نفسها ” الواد شاطر فى العلام .. واللي صبرك على اللى فات يصبرك ثلاث سنين كمان يا اعتماد.. والواد يبقى موظف وحلو كده.. يعوض صبرك خير.. وتكيدي سنية.. بس دول ثلاث سنين طوال عراض.. وفردة الحلق دى آخر حاجة والموكوس عاوز فلوس فى السجن. أبيع إيه تانى.. أعمل إيه يا ولاد”.

بينما الولد غارق فى لحظة بعيدة حين تقدم الأسطى محمد نحوه ، يفك الحبل الخشن الذى يلتف حول ساعديه ويربطهما معا ، بعد أن ثبتت براءته من سرقة ثلاثين جنيها كانت قد وقعت من الأسطى فى الجامع . ربت على ظهره وقال له : روح اعمل دور شاى .. كوباية ليه … وكوبايه ليك . انطلق الولد ليغسل براد الشاى ويشعل وابور الجاز ، ويضع السكر فى الكوبين اندلع فى قلبه فرح هادئ بحرية جديدة عليه . من سيصدق من العيال أنه شرب الشاى مع الأسطى الذى جلس الآن ووضع ساقا فوق ساق ثم أخرج من جيب قميصه سيجاره وحيدة أشعلها وتأمل الولد الذى انحنى على براد الشاى ليطفئ الوابور فور غليان الشاى .

حمل كوبه فى اليد اليسرى ، وناول الأسطى الكوب الآخر، الأكبر قليلا . تناوله صامتا ثم قال بعد لحظات : لم المسامير من على الأرض وحطها فى العلبة . فقال الولد : حاضر . ضحك الأسطى وقال : سبحان الله يا أخى .. الوقت بتقول طيب وحاضر ، وبعد خمس ست سنين ، لما تخلص المدرسة وتبقى أستاذ على بسمة بنتى .. وأجيلك المدرسة .. وأقولك يا سعادة البيه خلى بالك م البت تبص لى من فوق لتحت .. دنيا بنت كلب .. اشرب اشرب وأيام المدرسة هتاخد عشرين جنيه فى الأسبوع .. ابسط يا عم .

فرحة أخرى تفور فى صدره وهو يتأمل الصورة التى رسمها له الأسطى. حين يكون مدرسا على بسمة  سيجلسها فى التختة الأولى ويعطيها الدرجات النهائية ، ولن يضربها أبدا . وفى الفسحة سوف يشترى لها ورقة بسكوت شمعدان كبيرة، كما كانت تفعل معه الأبلة ثريا.

قاطعت أفكاره قائلة: يا أحمد.. نزولي السوق غلط.. وكل واحد بكلمة عشان جوز جنيهات.. انت كبرت ولازم تعرف.

شرد من جديد، وعاد للحظة أبعد، كان يقلب فيها الغيرة أمام الورشة، ويسمع دون انتباه الشيخ فى إذاعة القرآن الكريم يتحدث عن الأرض كروية الشكل التى تدور حول نفسها . كان الأسطى قد توقف عن العمل، وجلس على الكرسى أمام الورشة ثم طلب من الولد كوب شاي، وحين لمح الحاج محمد، نادي عليه وسأله عن كلام الراديو ، وقال له يعنى الورشة تبقى هنا الصبح والعصر تبقى فى المنشية، فأجاب الحاج: والله هي حاجة تحير.. متشغلش بالك .

كان الولد يسمع بانتباه وقليل من الغيظ، تمنى لو يستطيع أن يتكلم ويشرح لهما ما يعرف . انتظر حتى مضى الحاج محمد إلى حال سبيله ، فترك الغيرة واتجه إلى الأسطى محمود وقال له: الأرض لما تدور يا أسطى مش هتتنقل الورشة المنشية. تأمله الأسطى صامتاً ، فغالب خجله وأكمل: زى الصينية دى .. الكوباية دى هى الورشة ، والبرطمان ده هو المنشية أو الصينية هي الأرض، لو لفت كده البرطمان هيفضل مكانه، و الكوباية مكانها. هز الأسطى رأسه دون أن ينطق، فعاد الولد إلى عمله منتشياً.

بعد دقائق لمح الأسطى يدور الصينية وهو يبتسم ابتسامة خفيفة، واتجه إلى البنك ليستأنف عمله ، لكنه صفع الأسطى أحمد على قفاه صفعة خفيفة .. وقال مداعباً يعنى يا ابن الحمار لو كنت دخلت المدرسة كان مخك نضف شوية . ثم التلفت إلى الولد وسأله : واد يا ابن حمدينو .. انتو بتخدوا الحاجات دى فى المدرسة ؟ فهز الولد رأسه صامتاً .

حين لمحت رأسه يتحرك من أعلى إلى أسفل قالت : كنت عارفه إنك حنين ومش هترضى لأمك تتبهدل أكثر من كده . ربتت على ظهره، ثم ضمته إلى صدرها.

 

ومضات

Posted: 25 فيفري,2014 in ومضات, صوري

أكل القطار أبى

طحنه بعجلاته ، وشرب دمه، ثم انطلق مبتهجاً .

عدت يومها من الكُتاب قبل الظهر بقليل ، فوجدت نساء كثيرات يرتدين جلاليب سوداء ، ويجلسن على الأرض فوق القش المفروش أمام دارنا . كانت أمى تجلس صامتة ، وجهها أحمر وعيناها ملتهبتان، والدمع يسيل على خديها. جدتى إلى جوارها تلطم ، وتشد شعرها الأشيب المنكوش وهى تتمايل وتقول: مكنش يومك يا قلبى ..

بكيت، وأنا أرى العالم حولى شديد السواد حين اشتد الصوات والعويل، والنساء ينهضن فجأة ويحجبن أمى .

اقتربت منها، لكنها دفعتني بيدها. التقطتني يد زينب. حاولت أن أفلت منها فحملتنى وجرت بي إلى دارها وهى تحايلنى حتى أهدأ. أجلستني فوق سرير حديدى ، له ناموسية بيضاء غرقت فى منمنماتها.  ثم أحضرت طبق برتقال ، وقشرت لي واحدة، وأطعمتني إياها فصاً فصاً وهى تقول : إن كلت البرتقانة كلها.. حأجوزك بنتي. سألتها هي فين بنتك دى ؟ فأشارت إلى بطنها وقالت: هنا. مددت يدي ، ووضعت كفى فوق بطنها لحظات فأحسست بحركة هينة ، كأنها نبضة قلب . ساعتها كنت تقبعين فى ظلمة هادئة ، بينما ظلمتى ساحقة دوارة . تتمدد وتتسع وتبتلع كل شيئ من حولي .

 فى الظلمة ومضة: كف كبير يقبض على كف الولد الذى يتقافز، ويحاول سحب كفه، يريد أن يجرى ليصل إلى السيارة قبل أبيه. يعرف كيف يفتح بابها، ويجلس فى مقعد السائق ، ويدير التارة الكبيرة بانهماك، ويضغط قلبها المقبب، ويفرح بصوت الكلاكس الحاد الذى يبدد سكون الفجر.

يكذبون علىّ . يقولون أنه سافر . أتظاهر أنى أصدقهم ، لكنني أعرف أنه مات ، وأن الموت كالسفر تماماً.. غياب وظلمة، وأنت نور خرج من الظلمة، هالة صغيرة باهرة ، خفيفة كريشة بيضاء. حين حملتك أول مرة ، ونشقت رائحة جسدك فرحت. ضممتك أكثر، ثم خفت عليك فوضعتك إلى جوار أمك. لكن كفك امتد نحوى وأنت تبكين . حملتك مرة أخرى فتحول البكاء إلى صمت لين .

قالت أمك: بوس عروستك . لمست خدك بشفتي فأحسست أنني شربت نوراً بهياً ، وصرت خفيفا سعيداً لأنك لي. وأصبحت أزورك كل يوم ، أحملك بين ذراعي، وأغنى لك .

أحيانا أراه يقود سيارة زرقاء، ربع نقل، نصف عمر. تقف السيارة على شريط القطار وتأبى التحرك. بوق القطار يأتى محذرا: اهرب بعمرك أيها المغامر. عمره وعرقه فى السيارة، والصفير الحاد اللحوح يشق كتلة الضباب والظلمة، يطير عبر الحقول، مراوغاً كل البيوت حتى يصل إلىّ ، فأهب من نومى فزعاً فى قلب عتمة ساحقة.

سألتني: عاوز تسميها إيه ؟ قلت دون تردد: هالة .

كنت أهرب من أمي ، أهرب إليك ، وأتسلل إلى دارك . تفرح أمك حين ترانى وتقول : تعالى شيل عروستك لما أغسل المواعين، وأعلف الفراخ. تتركنا معاً. أغنى لك وأقص عليك حكاية الثعلب والغراب. أرقب تفتح عينيك السوداويين المكحولتين، وابتسامتك الأولى، وخطواتك المرتبكة. أحس حلاوة اسمى وأنت تنطقين نصفه .

كل ليلة أنادى عليه ، أصرخ فيه كى ينتبه ، فلا يسمعنى . يأتى القطار هادراً ، تحتك عجلاته بالقضبان فيتطاير شرر قوى ، وأسمع صريراً حاداً . أقف فى وجهه فيتخطاني كأنني هواء . يريده هو . أستدير فأرى كتل لحم صغيرة . مفتتة . مبدورة على الفلنكات ، والدم يسيل ويتشعب .

فى الظلمة ومضة أخرى: الكفان الكبيران يمسكان بالولد ، يلقيانه إلى أعلى ويلتقطانه . الولد يضحك  ويغمض عينيه ليتحاشى أشعة شمس الغروب ، ثم يقفز إلى داخل صندوق السيارة ، ويحمل حزمة قصب كبيرة .

حبل سُرى سِرى يربطنا . أنا أمنحك رئتي تتنفسين بهما ، وأنت تعيدين إلى الهواء مخلوطاً بحرارة جسدك الذى يكبر يوماً فيوماً، ويصير لغزاً يصعب علىّ فهمه . أشياء كثيرة لا أفهمها مثل نظرات أبيك الغاضبة حين يعود من السفر ، مثل رعب الكوابيس ، واليقظة في عمق الليل ، من الفزع أبحث عن جسد أخي إبراهيم لأتشبث به. مكانه بارد .

وأنا منهمك فيك نسيته، ونسيت أنه ترك المدرسة، وتركني وحدي للعيال يضربونني ، ويرفضون أن ألعب معهم. فى الطريق إلى المدرسة، أشتهى كفه ، أبحث عنه فى ضباب صباحات الخريف المقبضة وتظل يدى باردة. حين أعود من المدرسة ، يكون نائما. فمه مفتوح ، والعرق يسيل على رقبته ويتجمع على صدره . أناته الخافتة تخيفني ، ومع ذلك أرقبه طويلاً، وأمسك كفه وأعجب كيف كبر بهذه السرعة، ونحل جسده ، وصار وجهه شديد الصفرة ، والسعال سيف يجوس بصدره .

فى الصيف يعود أبوك، وأعود إلى إبراهيم. أذهب معه إلى الفرن بعد الغروب. أفرح لأنني أمشى إلى جواره. أتمنى أن أقبض على كفه كما كنت أفعل من قبل ونحن في الطريق إلى المدرسة. فى الفرن يخلع قميصه ، ويقف أمام النار بفانلة زرقاء بحمالات. يقذف العجين ، ويستعيده خبزاً ، يرميه إلىّ ، أتلقفه لأرصه فوق الطاولة. أقبض على الخبز فيندفع الهواء الساخن إلى كفى. أصرخ فيضحك العمال. ينهرهم وينظر نحوى بغيظ ويقول : لو صرخت تانى.. والنار دى لأحرقك يا سحلجى.. خليك راجل .

صار قاسيا .. تبدل .

كنت أقبض على الخبز الملتهب ، دون أن أشعر بناره. ومن وقت لآخر أتأمل وجهه الحاد. وفي طريقنا إلى المنزل، توقف ليشترى كيلو عنب. قال لي وهو يسعل : متزعلش منى.. أنا مش عاوز إللى فى الفرن يتنططوا عليك.. عوزك تنشف وتبقى راجل.

هل علمته أمى هذه الكلمات ؟ !

ذهب الصيف فسافر أبوك ، وتركت إبراهيم ، وعدت إلى المدرسة .. إليك . نذهب معاً كل صباح . كفك الصغير يتعلق بكفى . أمك توصينى أن أهتم بك ، لا تعرف أنك تهتمين بى ، تعوضين غياب أبى ، وقسوة أمي ، وجفاء أخى الأكبر ، وجفاف أيامى .

الشتاء يأتى ويرحل .. الصيف يأتى ويرحل .. كفى يحترق ويطيب ، وأنت برعم يباغتني ويصير زهرة .

في مستشفى الصدر ، كان يرقد على سرير حديدى . أمى تجلس إلى جواره على طرف السرير ، وهو يشير إلىً بكفه أن أبتعد ، وألا أشرب من زجاجة ماء على الأرض بجواره . لماذا كان عصبياً ؟ هل أفسدت عليه موته ؟ أنا الذى أردت فقط أن أمسك كفه مرة أخرى .

دخلت فراشه من الشباك الكبير المفتوح . اقتحمت هدوء العنبر الواسع . فرحت لما رأيتها ، لأنها بيضاء مثلك ، خفيفة الروح ومشاكسة مثلك . دارت حول جسده دورتين . رأتها أمى فشهقت وانخرطت فى البكاء . رفع كفه فى الهواء نحوها، وحرك سبابته وهو يحاول أن يقول شيئا ، فظهر خيط أبيض سميك من اللعاب بين شفتيه المنفرجتين . لم يستطع أن ينطق ، ولم أر يده تهوى . كنت أتابع انسحابك ورفرفتك المرتجفة ، وأنت تواجهين هبات هواء الخريف وحدك .

فى الظلمة ومضة أخيرة : وجهك يتوهج وعيناك تلمعان بفرح طفولى وأنت تسحبين كفك من كفى وتنظرين إلى الأرض. وتخفين صدرك بحقيبة المدرسة .

هل  كان القطار يقصده ، أم يقصدنى أنا ؟

دار السؤال برأسي ، وأنا أمشى وحيداً ، فى طريقى إلى الفرن ، ذات مساء شتوي. أحسست الطريق طويلاً وغامضاً ، والهواء قوى ، وضوء المصابيح يلقى بظلى على الأرض .

ظلى على الأرض جسد آخر: طويل ، نحيل ، يسعل ويرتجف من البرد .

مطاردة

Posted: 25 فيفري,2014 in مطاردة, صوري

تحرك القطار وأنا لم أصل بعد إلى المحطة ، فجريت بأقصى سرعة علِّى ألحق بالعربة الأخيرة ، قبل أن يغادر الرصيف. وكانت البنت التى تقف على باب العربة الأخيرة قد لمحتنى وأنا أصعد السلالم فأخرجت رأسها ونظرت إلى مقدمة القطار ، وكأنها تحث السائق على التوقف ، ثم نظرت نحوى كأنها تحثنى على الإسراع . تعلقت بوجهها القلق وأنا أجرى لكن بلاط رصيف المحطة البنى والأصفر ، كان يهتز ويتماوج إلى جوار كتلة القطار المندفعة ، ويجعل العالم مشوشا وثقيلا وباهتا.

كان القطار يبتعد ، وكنت كما فى الكوابيس أجرى وسط عاصفة من الألم المجسم ، تملأ صدرى رعبا ، وتشل أطرافى . صوت القطار بعيد وعميق ومحايد ، والسؤال يطن برأسى . هل وصل القطار مبكرا . أم تأخرت أنا ؟

استيقظ كل صباح على صوت أمى وهى تصيح ” الساعة بقت ستة ” فأقفز عن السرير ، وأجرى إلى الحمام ، ثم أتوضأ وأصلى، وألعب أربعة ضغط ، ثم آكل سريع سريع ، واشرب الشاى وأنا أرتدى ملابسى سريع سريع ، وقبل أن أخرج ، أضع الساعة حول معصمى ، وأمسح الحذاء بقطعة قماش ، وأضع الأجندة والكتابين تحت باطى . أمشط شعرى بيد واحدة فى الشارع ثم أعيد المشط إلى جيب البنطلون الخلفى وأقف دقيقة ، أخطفها فى الواقع ، كى استنشق هواء الشتاء البارد ، وأتأمل السماء الثقيلة الداكنة .

أسير بقامة منتصبة ، كما أخيل وهو يستعرض جنده ، مطمئنا إلى دروعه التى تغزل مع القدر غلالة تحميه من الموت. أتجه نحو محطة القطار عبر شبكة من الشوارع والحارات المتداخلة ، توفر خمس دقائق على الأقل . وحين أقف على أول الرصيف ، يكون القطار قد أبطأ استعدادا لدخول المحطة ولسبب لا أعرفه ، لا يتأخر هذا القطار أبداً ، خلافاً لكل قطارات الخط . فماذا حدث وجعله يصل مبكرا ، أم تأخرت أنا ؟

فى القطار دفء ، رغم ابوابه المفتوحة دائما ، ربما لأن ركاب أول الخط من المطرية والمنزلة يحكمون إغلاق النوافذ ، وينامون فى زوايا العربات فتبخ أجسادهم حرارة لا تتبدد ، فركاب المحطات الأخرى يشكلون بأجسادهم أبواباً تحمى الدفء حتى يصل القطار إلى محطتنا . أضع قدمى فيه فارتجف ، ويقشعر جلدى ، تماما كما كان يحدث أيام الجمعة ، حين أجلس أمام الباجور وفوقه صفيحة الماء يتصاعد منها البخار فى خيوط رفيعة ، تتلاشى بسرعة .

أبدأ في البحث عن مكان بين صفوف الكراسى ، أو بين عربة وأخرى ، أو قرب الباب لأتأمل الحقول والبيوت والأعمدة والفلاحين يتراجعون إلى الخلف بسرعة خرافية كأنهم صور متوالية ، كل صورة تنفجر ثم تتجمع عناصرها من جديد فى لمح البصر لتصنع صورة جديدة . ما الذي حدث وجعله بعيدا ، وجعلنى أتراجع إلى الخلف نحو الهاوية ؟

كل يوم أقف على بابه ، لا أحتمل ثقل سكونه ، وأفرح حين يتحرك فجأة فترتج العربات ، وترتطم الأجساد بتسامح وتواطؤ ، ثم يسير ببطء لدقائق وتهتز عرباته اهتزازات موقعة ، قبل أن تستقيم سرعته ، فتستقر الأجساد ، وتخفت الهمهمات ثم تتلاشى ، ويعلو صمت ما يلبث أن يتحول إلى وجوم ، ليرتد كل واحد إلى نفسه .

هذا ما يفعله القطار بى .. يجعلنى وحيداً في قلب الزحام . أشفق من وحدتى جدا ، ومع ذلك استمتع بها ، كما أزمانديوس المطروح فى فراغ الصحراء على الرمال الخشنة ، تحت شمس لا ترحم ، ومع ذلك يهتف: أنا ملك الملوك.. أنا ملك الملوك.. أنا .. يهتف ولا يخجل من تمزق أوصاله وتشعب الشروخ فى جسده الحجرى ، إذ لا أحد يراقبه ، لا أحد يعرف تاريخه أو يطلع على ما بصدره من خوف وارتباك ، أو يرى جوربه ، لذلك يطلق رغباته كلها ، ويصل انتصابه إلى حدوده القصوى .

كمثل تلك اللحظة التى انقطعت من الزمن وانفصلت عنه ، حين وجدت فتاه سمراء بين ذراعى ، لا تستطيع أن تتحرك ، ولا أستطيع أنا أيضا . حدث هذا يوم سبت ، حيث القطار أكثر ازدحاما وحرارة كان وجهها أمام وجهى مباشرة ، الإيشارب الأسود كأنه العتمة الأولى ، يظهر مقدمة شعرها ويفصل وجهها عن العالم ويضعه أمام وجهى مباشرة ، لا يفصل بين وجهينا سوى شبر مشحون بالشبق .

كمثل لحظة أخرى وحيدة وغائرة ، تكومت عليها اللحظات حتى صنعت أعواماً فوق أعوام . لحظة من زمن خرافى امتزج فيها الظل بنور الشمس ، وأنتج بردا وسلاما ورطوبة أليفة تحيط بجسد صغير يتمدد فوق قش السطح وينظر إلى قبة السماء ، وفي الهواء نسمة خريفية باردة ودافئة ومربكة ، خدرت جسدي الصغير فنمت ، أو ظننت أننى نائم ، أو نمت وفى الحلم كنت صاح ورأيت الكون بلون الجلد البشرى ، له رائحة أنثوية ومذاق حار ، وملمس زلق . كأننى فى الشتاء ، فى لحظة أخرى أعمق وأخف وطأة ، أمشي في الشارع وأتكأ على الجدران خوفا من الانزلاق على الطين ومع ذلك انزلقت فانقبض صدري ، لكن دفء الطين ونعومته جعلنى اثبت مكانى فى لا مبالاة طيبة ، عادلت خوفي وغضبى . بدأت أكوم الطين وأجوس فيه بأصابعي ، وكان الطين دافئاً كتأوهات مكتومة جعلت جسدى يتوتر . وحين نهضت كنت مبتلاً . بلل جديد ساخن وبهيج ومؤلم .

الموسيقى إيقاع يضبط الروح فتستعيد به ما فقدت . هل القطار موسيقى ؟ !

اهتزاز متواتر.. اصطكاك.. صرير حاد.. طقطقة.. إيقاع معدني متصاعد.. نغمة حزينة.. نغمة خافتة.. نغمة رتيبة.. دفء شهى.. يا الله نلعب فى الجنينة.. قبل الديب ما يجى علينا. ديب يا ديب .. بتعمل إيه.. وكمان إيه ؟ يا عروس البحر.. يا حلم الخيال.

تدخل نغمة نشاز بعد سلامون القماش ، حين يضاعف القطار سرعته ، ويرتفع الشريط على ثلة عالية تشبه هرماً صغيراً، ويتصاعد التراب والصخب ، يردنى إلى ظهيرة حارة حين كنت أسير فى شارع السوق مع زملائى فى صفوف نرتدي فانلات حمراء وبيضاء وسوداء نصنع بأجسادنا معاً علم مصر، وننشد: نعيش لمصر.. نموت لمصر على إيقاع طبلة ضخمة. وحين وصلنا أمام شركة بيع المصنوعات هبت نسمة هواء قوية فانكسرت حرارة الظهيرة ، وارتبكت نقطة على طرف العلم الأبيض ، كأن الهواء حركها . هذه النقطة أنا . كنت قد اندمجت مع موسيقى النشيد الجماعى ونسيت خوفى وخجلى ، وخرجت من الصف دون أن أدرى ، وأنا أحرك ساعدى الأيمن بقوة إلى أن جاء الأستاذ قدرى وضربنى بقبضة يده في كتفي ضربة قوية ، أعادتني إلى الصف ، وأعادت صوتي إلى نبرته المحايدة قبل أن تحبسه الرغبة فى البكاء.

بين سندوب والمنصورة تقتحم حنان محمد  يونس رأسى عنوة ، فأتذكر يوم وقفنا معا أنا وهى على باب قطار الرابعة والربع ، فرحين باندفاعه البرى . كنت أسمع خفقان قلبى رغم الضجيج ، وهى تنظر إلىّ نظرة الحب التى عرفتها فى عيون الآخرين للآخرين. أذكر تلك اللحظة بكل تفاصيلها كأنها حدثت بالأمس ، أو لم تحدث أبدا . أذكر سواد عينيها الجرئ المقتحم ، وشعرها البنى القصير ، وأحمر شفتيها الثقيل ، وأصابعها الصغيرة بأظافر طويلة مدببة . كانت ترتدي جيبة سوداء تحت الركبة ، وبلوفر سمني ، وحذاء برقبة.

وماذا كنت أرتدى أنا ؟ أكيد هذا البلوفر البنى بخطوطه الرفيعة . أيامها لم أكن أرتدى سواه ، حتى أن أمانى زميلتى قالت حين رأتنى أرتدى غيره : الله .. أنت غيرت اليونيفورم .

جرحت ، لكنى تماسكت. خرج صوتي محايداً دون شائبة من تأثر وقلت لها: أنتي خدتى بالك . ابتسمت أمامها وبكيت ليلتها، بكيت ساعتين ، وأمي تحايلنى وتسألني عن السبب ، وتلعن اللي خلفوني ، وأنا لا أجيب .

المهم.. نرجع لحكاية حنان التي لمحت في عينيها نظرة الحب ، والتي قالت لي وهى تودعني : ممكن أشوفك تانى .. بكرة أنا مش عاوزه أروح الكلية. عاوزه أروح جزيرة الورد.. إيه رأيك . فقلت بصوت بالكاد يسمع: ماشى . وأنا أختنق من الفرح . تحرك القطار فنزلت منه بسرعة ، ووقفت لحظات تشير لى بكفها مؤكدة على موعد الغد .

هل يغير القطار مساره ؟!

كان ذلك الغد يوم أربعاء ، ويوم الأربعاء يبدأ بمحاضرة اللاتينى فى الثامنة والنصف تماما . ولم يكن الدكتور حلمى يتأخر كالقطار، وكان يرفض دخول طالب بعده ، ويرفض خروج طالب من المحاضرة ، يبدأ باللغة وقواعدها ثم يكمل سيزيف والصخرة.

–       بويتا بولم أماتس.. الشاعر يحب الفتاة.

كنت أردد خلفه شاردا ، وكان للجملة إيقاع هائل ، جعلها تدوى برأسى. إستمر يشرح القواعد ويكتب النهايات ، ولا يجيب عن سؤالى : لماذا يحب الشاعر الفتاة ؟ ولماذا لم يذهب إليها ؟ هل خاف منها أم عليها ؟ أم قرر الذهاب لكنه تأخر فى النوم ووصل متأخراً إلى المحطة ، وطارد القطار الذى هرب منه ، وتركه للمحطة الخاوية بطعمها الجديد عليه . قلبه ثقيل وروحه قلقة ، وفى صدره حزن واشمئزاز وتحد وإحساس بالتحرر والفقد. كأن محطة القطار هى قمة العالم ، وكأن تلك الكتلة المعدنية صخرة تنزلق .

هل القطار رمز ؟

كان قد ابتعد عن الرصيف، وتوقفت يد البنت عن التلويح ، وسحب ناظر المحطة الصفارة من بين شفتيه فأدركت عبث المطاردة، وقلت لنفسي: سأذهب بالميكروباص وبلاش أشترى المذكرة النهاردة.. بلاش مذكرة خالص.. بلاش جامعة النهاردة.. بلاش.. خالص. لكن جسدي لا يقتنع ولا يريد أن يتوقف.. شيء بدائي وحار يسرى فيه ، كأن هذا القطار طريدته التي سيسد بها جوعه .

كان يجرى وحده بقوة وإصرار. لم أعد قادرا على التحكم فيه حتى ظننت أنه سيجرى إلى الأبد ، أو يندفع نحو حقل البرسيم ، أو يقفز ليتسلق شجرة الكافور ويطارد العصافير ، أو يطير ليمسك بالسحب لكنه ظل يجرى بين شريطى القطار بذات السرعة حتى خطرت لى فكرة وبدأت أردد : بويتا بولم أما يتس .. بوتيا بولم أمايتس . بدأ يرتاح للإيقاع ويهدأ رويداً رويداً ، حتى توقف تماما ثم استدار وتوجه نحو المحطة .

كان يمشى ببطئ ووهن بينما الإيقاع يتصاعد برأسى .. الشاعر يحب الفتاة ، والفتاة أخذها القطار . القطار كالقطيع والشاعر كالحمل الشارد . الشاعر يحب الفتاة  لأنها من العالم الذى فقده ، من القطيع الذى أقصى عنه . الشاعر حمل شارد يقف فى المحطات وحيدا ، يطارد السراب فى الوديان .. هذا حقه . الشاعر حمل شارد .. يمزقه الخوف من الوحدة.. هذا قدره .